الجمعة، 6 نوفمبر 2009

رعب الكاميرا




إذا جلس أي شخص في ميدان التحرير ومعه ورقة وقلم، أو "لاب توب"، في وضح النهار وأمام كل الناس، وأخذ يدون كل مشاهداته وانطبعاته الدقيقة عن كل مايحدث في الميدان، لن ينهره أحد، ولن يفكر أي ضابط أو عسكري ممن يكتظ بهم المكان في سؤاله عما يفعل، أو في الاستفسار منه عن طبيعة ما يكتب، حتى لو استمر فعل الكتابة عشرات الساعات.. لكن، إذا جاء شخص آخر، ومعه كاميرا سينمائية أو ديجيتال، ليسجل نفس مشاهدات الشخص الأول بالصورة بدلاً من الكلمات، فلن يستغرق الأمر أكثر من خمس دقائق، قبل أن ينبري له ضابط كبير ليسأله عن "تصريح التصوير"!
لست صاحب هذه الملاحظة شديدة العمق والاختصار، بل هو صديقي المخرج المحترم"إبراهيم البطوط"، حيث دارت الدردشة مع أصدقاء مشتركين، حول طبيعة علاقة السينما بالرقابة وبالنظام الأمني॥ خلاصة الدردشة، أن "رعب الصورة" يتملك القائمين على الأمن، أكثر مائة مرة من "رعب الكلمة"، ذلك أنك تتحدث عن مجتمع تسوده الأمية بنسبة تتجاوز الخمسين بالمائة، فضلاً عن أن معظم القادرين على القراءة لايقرؤون، سواءاً لأنهم لا يحبون القراءة، أو لأنهم يوفرون ثمن ما يمكن أن يقرؤوه، أو حتى لأنهم لا يفهمون ما يقرؤونه॥ بينما للصورة قدرة لا نهائية، في اختراق الحواجز والوصول الى الجميع عبر وسائط عديدة، فضلاً عن جاذبيتها وسحرها وإمكاناتها في التأثير.. إذا كتبت مئات السطور لتصف مهانة راكبي أتوبيس النقل العام، أو هوان الواقفين في طابور الخبز، ستجد أن لقطة مصورة لا تتجاوز الثلاثين ثانية لنفس الموقف، كفيلة بتوصيل أضعاف المعاني التي قصدتها في كتاباتك.. من هنا، يبدو النظام الأمني حريصاً على خلق سلسلة من الفلاتر والمرشحات، قبل خروج أي مادة مصورة للنور، لضمان السيطرة على حجم التأثير قدر الإمكان.. فإذا كنت بصدد صناعة فيلم مثلاً، عليك أن تنال الموافقة على السيناريو أولاً، وهي مسألة تتداخل فيها جهات عدة حسب طبيعة كل سيناريو، ثم إذا نجحت في ذلك، فعليك أن تحصل على تصاريح الداخلية للتصوير في الأماكن المختلفة، وهي تصاريح لا تتوقف فقط على طبيعة المكان، بل تتضمن الموافقة على أسماء طاقم العمل، وبعدها يجب أن تعرض ما قمت بتصويره على الرقابة مرة أخرى، لتنال إجازة بالعرض العام.. بديهياً، تبدو الخطوة الأخيرة فقط كافية لتأدية الغرض الرقابي، فما أهمية الخطوات التي سبقتها؟ إنه التأكيد على زراعة القلق في نفس المبدع بالصورة.. مع كل خطوة يخطوها عليه أن يتذكر أنه ليس حراً، وليس من حقه أن يفكر بعيداً عن القيود، وبالتالي سيتجه تلقائياً مع كل خطوة للحذف والتعديل والتنقيح والمواربة، كي يحاول الإفلات بمشروعه من شبح الرفض، وهكذا سيفقد مع الوقت طزاجة موضوعه، وسيخفت تأثير صورته।أدعي القدرة على تقييم السيناريوهات الروائية، وخلال الشهور القليلة الماضية كنت محظوظاً بقراءة اثنين من أجمل وأعمق السيناريوهات وأكثرها جاذبية.. بالصدفة ذهب العملان إلى الرقابة في توقيت واحد تقريباً، لكن لم تكن صدفة أبداً أن ترفض الرقابة كليهما، رغم أن أياً منهما لا يتطرق إلى موضوعات سياسية حساسة بأي شكل.. كل ماهنالك أنهما ينتميان لنوعية الأعمال الصادقة، الطازجة، الناضجة، القادرة على التأثير في النفوس।

هناك 4 تعليقات:

ola_barakat يقول...

هو ياريت الامر يتوقف عند التصوير السينمائي بس لكن المشكله ان اي صوره تفضح اي حد بتكون عواقبها وخيمه جدا وغالبا من اسبوعين وانت طالع ف العمبوكه اسالني انا
المشكله كمان ان تصوير حتجات عبيطه بيفوت وبيبقي حلو اوي زي مجموعه اعلانات ميلودي افلام مثلا واخرهم بتاع فيلم القلب الشجاع اللي عملنا بداله قبضه الهلالي بجد حاجه تقرف طيب ماهو لازم يكون فيه توازن يعني مش المواضيع الحلوه تترفض وف المقابل تتصور المواضيع الباااااااااااااااايخه دي

hisham يقول...

مبروك يا عمنا عاالبلوج الجديد .. و رأيى ان حتى الهوس الامنى بدأ يزحف من رعب الصورة لرعب الكلمة برغم كل الافتراضات اللى انت افترضتها ف كلمتك من الامية و استخسار الشرا و عدم فهم المكتوب الا ان الماكينة الامنية الجهولة دايسة ف الحكاية برضو رغم ان الكتاب و لا الرواية المصادرة كام واحد حيقروها اصلا .. و عندك امثلة على كده كتير من اول مقتل الرجل الكبير لابراهيم عيسى و العزبة لمحفوظ و عاصمة جهنم للدرينى و عشان ماتخدش على قفاك للوا عفيفى -معرفش لوا ولا اقل - المهم ان شهوة المنع مسيطرة و السلام.. يا راجل ده ساعات مقالات هويدى ف الاهرام كانت بتتمنع مع ان كام واحد يعنى حيقراها و اللى حيقروها حيعملوا ايه بعد ما يقروها .. اى كلام .. هى زى ما بقولك شهوة المنع و المصادرة ..
بس خلينا نفكر بزاوية تانية .. احنا لو مكانهم كنا حنعمل كده و لا لأ ..؟
اجابة صعبة!

Doaa Samir يقول...

أستاذ وائل، حضرتك تتحدث عن فوبيا الصورة لدى أجهزة الأمن تجاه من يحمل كاميرا ديجيتال أو غيرها أو تجاه مبدع الصورة زي ما حضرتك قلت. وبصراحة أنا شايفة أن لهم من الأسباب ما يفيض ويفوق الحصر ويبرر لهم خوفهم.. يعني فيه حد يا أستاذ يسمح بتصوير مواقع جرائمه، ثم يعطي تصريحا بنشرها على الضحايا؟؟!!د

طيب.. ماذا عن فتاة تحمل كاميرا موبايل عااااادية لتجمد لحظات مؤثرة أو نادرة يجود بها الشارع أثناء مروري به؟!!د
عارفة إني أتحدث من منظور آخر.. أقصد أمية الصورة لدى عامة الناس سواء كانت لهم علاقة بأجهزة الأمن أم لا. ليست فقط أمية، إنما الأمر يصل إلى حدود السخرية والمعاكسة لدرجة أنها في مرة كانت مركزة بدرجة أعطتها حق الحضور في إحدى تدويناتي:
لم تكن عتباتُ الصبحِ توحي بجديد يميز اليوم عن سابقه ولاحقه. وظل الوجود هكذا حتى لاحظتُ خلو السماء من اللون الرمادي الداخن على مشارف رمسيس. وظلت الزُرقة تتكثفُ شيئاً فشيئاً حتى صارت كسفا في الدمرداش، تتخللها كسفُ سحبٍ نقيةُ البياض. فتحت الشباك كله وأنا لا أكاد أصدق ما أراه من حال السماء. حالٌ لا يتسقُ مع سماء القاهرة التي لا ترضى عن ردائها الداخن القاتم بديلاً في أغلبِ الفصول. ولا يزال الركاب منغمسين في الصمت الموحش.
فصلتُ السماعة عن الهاتف لأتمكن من تحويل حالِ السماء إلى صورٍ يخزنها في ذاكرته علاوة على ذاكرتي. وبدأت في التصوير، وبدأت التعابير تدب في وجوه تماثيل الشمع، فتعلوها ابتسامات جانبية ونظرات متلصصة على ما أفعل دون أي انتباه لحال السماء! ثم صار للابتسامات صوت متقطع ساخر يحاكي صوت التقاط الكاميرا للصورة"..د
في الأول التجاهل لم يكن ليسعفني ولو كنت في مواصلة كنت أنزل عشان أعرف أصور. وفي كل مرة يحدث هذا الموقف، يظل سؤال بلا إجابة يلح بأسلوب سخيف مستفز: هو أنا لو كنت إنجليزية الملامح والمظهر وأحمل فوق ظهري شنطة جينز مقطعة وضخمة، كان رد فعلهم سيظل هو نفسه؟! أم أنهم سيتركونها في حالها.. هذا إن لم ينظر لها أحدهم نظرة إعجاب؟!!د
يعني مبدع الصورة -عجبني أجداً التعبير ده- لا بد أن يكون له مظهر معين لنوسع له الطريق؟؟! النقطة دي هتخليني أدخل في موضوع تاني خالص
بس فيه سؤال تاني.. ازاي احنا كده وعندنا معارك مصورة على جدران معابد، ولو هاقرب شوية هالاقي شمس وزخارف نباتية مصورة في قباب المآذن، ولو هاقرب أكتر، هالاقي ميل لدى عامة الناس في الريف للتصوير على جدران بيوتهم الكعبة خصوصا لما يحجّوا، ده غير مشغولات سيناء ودهب والصعيد المليئة بحواديت الزيني بركات والهلالية وجهاز العروسة.. أقصد إن الصورة لها وجود في ثقافتنا.. طيب اللي موجود دلوقت اسمه ايه؟؟

رحاب صالح يقول...

استاذ وائل
اشكرك اولا لانك اعطيتني الفرصة لقراة المدونة ,وبالنسبة للموضوع فانت معاك حق اكيد احنا كمصريين عندنا فوبيا اسمها رعب الكاميرا ,وانا مع دعاء سمير في تعليقها الجميل جدا ,كان لي تجربة خاصة في التصوير بكاميراوكانت مشكلة كبيرة من وجهه نظر البعض في تناول الموضوع اللي كتبته والصور اللي صورتها من وجهه نظري,مش عارفة احنا لية هنفضل سلبيين جدا ,احنا مش هنستنا لما السلبيات دي تتغير لوحدها لازم احنا اللي نغيرها ,المفروض ان احنا نصور سلبيات من وجهه نظرنا بس مش سلبيات وبس اكيد في اجابيات بس احنا عندنا للاسف ناس مش بتشوف غير الايجابيات وبس ..؟